كيف تتكون الشخصية
الشخصية هي [أنا] وهل هي تتكون؟ كما قال بذلك جمع من علماء الاجتماع، أم هي شيء يولد مع الإنسان وإنما ينمو، كما قال به آخرون؟ وهل هو شيء واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، كما قال بكل ذلك جمع؟ احتمالات.
وفي الحديث: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)(1) قال جماعة فيه، أنه كناية عن أن الإنسان يستحيل أن يعرف نفسه، كما يستحيل أن يعرف ربه، وقال آخرون أن المراد به أن الإنسان إذا التفت إلى نفسه وأنها مخلوقة جاهلة عاجزة و… عرف أن لها خالقاً عالماً قادراً… والقائلون بأن [أنا] لا يولد، بل يتكون قالوا: بأن [أنا] عبارة عن جملة من أعمال الفعل وردود الفعل التي يكتسبها الإنسان في مسيره الطويل من الأسابيع الأولى من الولادة، إلى آخر عمره، حيث أن [أنا]: أي [الشخصية] لا يولد، وإنما بالتدريج يعرف الطفل أنه غير إنسان آخر، ثم تتبلور هذه الشخصية بملاحظة:
1 ـ عمل الناس تجاه الإنسان.
2 ـ وعمل الإنسان تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، وتصورات الإنسان عن نفسه وعن الآخرين أول ما يشعر، مبهمة غاية الإبهام، ثم تأخذ في الوضوح، والوضوح الأكثر، حتى تصل إلى درجة الكمال، حيث ليس فوقه كمال لكن الكنه يبقى مجهولاً على كل حال.
ولذا قال أحد العلماء: إن معرفة كنه الأشياء من أشكل المشكلات، وقال آخر: إنه مستحيل، ثم أردف، إنا قد علمنا بعد دركنا لكل فنون العلوم: أنه لم نعلم شيئاً.
لكن هذا القول لم يتم عليه دليل، إذ الظهور تابع للواقع ـ كما قالوا بذلك في الحركة الجوهرية، وإن ظهور الحركة دليل على واقع الحركة في الجوهر ـ… أما من قال بأن في الإنسان [أنا] و [أنا]، استدل بما يجده الشخص، من نازع ينزع فيه إلى الخير وينهى عن الشر، ونازع بالعكس ـ إذ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ـ ومن قال بـ[ـأنا] ثالث، استدل بما يشاهد منحكم ثالث بين النفرين [أنا، وأنا] لكن دليل كلا الرأيين ليس مقنعاً، وفي القرآن الحكيم: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها)(2).
وفي الحديث: (إن في قلب الإنسان لمتين لمة من الملك وأخرى من الشيطان)(3).
وفي حديث آخر، تفصيل وجود جنود العقل وجنود الجهل(4)، وكيف كان فالمهم التكلم عن [الشخصية] مما يجدها كل إنسان وهو مهم علم الاجتماع.
تكون شخصية الطفل
إن الطفل يلاحظ الأشياء حوله، بحواسه الخمسة، سواء ما تفعل الطبيعة أو الحيوان أو الإنسان، سواء بالنسبة إلى الطفل، أو إلى بعضهم البعض، كما يلاحظ ردود الفعل لأعماله بالنسبة إلى الطبيعة أو الحيوان والإنسان:
1 ـ فمثلاً: يرى الشمس والماء والشجر والمروحة والمصباح، وينصدم بالهواء والحرارة، ويسمع الأصوات الطبيعية والحيوانية والإنسانية.
2 ـ ويرى معاملة بعض أفراد الحيوان للبعض الآخر، كالحيوانات الداجنة وبعض أفراد الإنسان لبعض في التكلم والتعارف والمصارعة ونحوها.
3 ـ كما يرى أنه إذا فعل فعلاً صار رد الفعل كذا، مثلاً: إذا ذهب إلى النار احترق، أو إلى السلم سقط، أو إذا بكى حملوه، أو أطعموه، وهكذا، ثم إنه يأخذ كل شيء ليراه جيداً، ويدخله في فمه ليعرف مذاقه وهكذا.
فإذا عرف الأشياء، يدخل تدريجاً في عالم الأفكار، أي يعرف ماوراء الأشياء، مثلاً أولا: يرى الكبريت، ثم بعد ذلك يشعر بأنه إذا قدح شبت منه النار، ويرى الدينار ثم يعرف أنه ذو قيمة، وهكذا… وبكل ذلك تنمو شخصيته ولذا كانت الشخصية رهينة الأفعال وردود الأفعال المحيطة به فإذا حقّروا الطفل نشأ محقّراً ذا عقدة، وإذا عظموه نشأ كبيراً سمحاً، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن عليه السلام فقال: هذا سيد ابن سيد(5).
وهكذا بالنسبة إلى الكرم والبخل، والشجاعة والجبن، واللطف والخشونة، والنظافة والوساخة، والأدب وسوء الأدب، وغيرهاـ، فإن الملكات كالبذور تبذر في النفس ويعتنى بها فتنمو من جنس ذلك البذر الذي بذر فيها… وبالجملة فالشبكات الاجتماعية الهائلة تأخذ شيئاً فشيئاً تحيط بالطفل فعلاً ورد فعل، وفي وسط تلك الشبكات تنمو ملكاته.
بين الضمير والمجتمع
وحيث أن فقي الإنسان حالة حكيمة داخلية مما يسمى [برؤية الحسن والقبح] وحيث أن الاجتماع وليد ضغوط ونتائج حاصلة من تلك الضغوط، بالأهم والمهم، والماضي والحال والمستقبل.
فميراث الماضي حيث يأخذ القدسية والعادة، ومصالح الحاضر، والاستعداد للمستقبل… وفي كل هذه الثلاثة [الأهم والمهم] يخلي المهم مكانه للأهم، كما أن الأهم من الماضي يزاحم المهم في الحاضر، والأهم المستقبلي يزاحم المهم في الماضي والحاضر].
أقول: حيث كل ذلك، تتكون عند الشخص [شخصيتان]:
1 ـ شخصية ضميره.
2 ـ شخصية اجتماعية.
فإذا خلى ونفسه أو بأفراد عرفه الخاص، الذين أطرت شخصياتهم شبيهة بالآخر، أظهر ضميره وتكلم وعمل بكل حرية أما إذا كان مع الاجتماع اضطر إلى أن يتنازل إلى شبكة الاجتماع حذراً من أن يفقد مصالحه، وهذا ليس نفاقاً، بل من باب ترجيح الأهم على المهم، وهي قاعدة عقلية.
وهذا هو الفارق بين [النفاق] و[المداراة] فالأول انتهازية ووصولية ونفعية، والثاني أهم ومهم، ومصلحة واحترام الآخرين، وقد ذم الله سبحانه الأول، قال: (ودوا لو تدهن فيدهنون)(6) وغيرها من الآيات، ومدح الثاني قال: (لتعارفوا)(7) وغيرها من الآيات.
وبالسبب السابق ضمير الشخص، واجتماعه بالإضافة إلى الميول والشهوات الداخلية والضغوط الخارجية الأحيانية، يتراوح الشخص في أفكاره وأعماله فربما صار مؤمناً، وربما منافقاً، وربما كافراً، وكذلك ربما صحيح الفكر أو العمل، وربما فاسدهما، ولذا كانت الشخصية كثيراً ما متأرجحة بين عوامل أربع:
1 ـ ضميره المنعقد على حسن الحسن، وقبح القبيح.
2 ـ شهواته وميوله الطاغية.
3 ـ عرفه الخاص كحزبه وجمعيته.
4 ـ عرف الاجتماع العام، حيث تختلف موازينه عن موازين العرف الخاص، غالباً.
ومما تقدم ظهر أن الشخصية ليست محض انعكاس للمحيط الاجتماعي، بل أمر مزيج من الذاتية والانعكاسات الاجتماعية وأمور أخرى، فإن كل هذه الأمور دخيلة في تكوين الشخصية، أما من يراها صرف الانعكاس للمحيط الاجتماعي، ولذا يرى أنه لو تغيّر المحيط الاجتماعي تغيّرت الشخصية، فالدليل على خلافه، فإنه لو كان الأمر كذلك، لماذا كانت الازدواجية بين الضمير والخارج، ولماذا يتغير الاجتماع تدريجاً، إلى غير ذلك.
مراحل تدرج الطفل
ثم إن الطفل في تقدم شخصيته يتدرج في مراحل ابتدائية أربع:
1 ـ مرحلة التقليد للناس، حيث يعمل كما يعملون، كأن يصلي مع أبيه وأمه وغيرهما، أو يأخذ اللقمة كما يأخذون، أو يتنحنح مثلهم إلى غير ذلك.
2 ـ مرحلة جعل نفسه مكانهم، والنظر إلى نفسه كما هم ينظرون إليه، مثلاً يمثل نفسه بالأم، ويلاطف مع نفسه، أو مع آلة لعب صورت في صورة الطفل، وبالأب ويأتي إلى نفسه بالفواكه، أو يهز نفسه كأن الأب أخذ يهزه، وشبه ذلك.
3 ـ مرحلة اللعب الجماعي، حيث تنتهي مرحلة اللعب الفردي، وإنما يلعب في شبكة من الارتباطات، حيث يراقب دوره في اللعب، ويلاحظ فشل ونجاح زملائه، ويكون حكماً في أن أي منهم خالف الدور، أو زور في اللعب أو ما أشبه ذلك.
4 ـ وأخيراً يصل إلى مرتبة يأخذ تدريجاُ في الخروج عن مرحلة الطفولة ويتكون في نفسه هدف في الحياة، ويرفع بنفسه عن الألعاب الطفولية، ويكون الزمان بنظره أبطؤ، فإن الزمان ـ كما قرر في محله ـ يختلف مروره بالنسبة إلى الأشخاص، فمن في لذة يرى تقضي الزمان بالنسبة إليه سريعاً، بينما من في الألم يرى الساعة عشر ساعات مثلاً، والمنتظر للصديق الحميم يرى بطوء الزمان، بينما من ينتظر مكروهاً يرى سرعته، وهكذا، حتى قال بعض العلماء إن الزمان محله في ذهن الإنسان لا في الخارج، وكلما قرب الإنسان إلى الطفولة يرى بطوء الزمان، فالساعة عند الطفل كنصف ساعة عند المراهق، بينما هو ربع ساعة عن الشاب وهكذا.
تصورات الإنسان عن نفسه
وحيث يتكون في نفس الطفل الذي أخذ في الكبر هدف ما، يقارن ذلك أنه يأخذ في تقييم نفسه، وفي هذه المرحلة ـ والتي تبقى إلى آخر العمر ـ يلاحظ أموراً:
1 ـ تصوره عن نفسه، وأنه كيف هو؟ فإن الإنسان يزن نفسه عند نفسه، هل له وزن أم لا؟ وكم وزنه؟ وكيف وزنه؟ وما هي مرتبته في الاجتماع؟ إلى غير ذلك.
2 ـ تصوره أنه كيف يكون عند الناس؟ هل له وزن أم لا؟ وكم وزنه؟ وكيف؟ وهكذا… فيجعل نفسه مكان الآخرين وينظر إلى نفسه من منظارهم وإذا كان يحيط به عرفان عرف عام، وعرف خاص، كما إذا كان في منظمة أو حزب أو جمعية أو ما أشبه، يلاحظ أنه كيف عند هؤلاء؟ وكيف عند هؤلاء؟ وهكذا.
وغالباً يعدل الإنسان طريقته إلى ما يراه يوجب ارتفاعه عند العرفين، وإذا كان تعارض بين العرفين، فغالباً يقدم عرفه الخاص، لأنه أقوى صلة ورابطة به، ولذا يشاهد أنه يتحمل مشاكل هذا العرف ضد العرف العام، وقليل هم الذين يخرقون عرفهم الخاص ليلحقوا بركب العرف العام.
ولأجل التناقض بين العرفين، وإن العرف الخاص لابد وأن يكون في المجتمع علناً أو سراً، تحاول الحكومات الحازمة:
أ ـ إعطاء المجال لأعضاء العرف الخاص بالظهور، والاختلاط بالمجتمع لئلا يقعوا في قوقعة السرية، حيث يتبع السر الانغلاق ثم العنف، وأضرار العنف بالاجتماع وبسمعة الحكومة أكثر من إعطاء المجال لأعضاء العرف الخاص بالظهور.
ب ـ ثم إذا كان العرف الخاص فيه طبيعة الهدم، تحاول الحكومة سحب البساط [بالمغريات] من تحت أرجل ذلك العرف وإن لم يكن فيه طبيعة الهدم تحاول الحكومات ترقيق مشاعر العرف الخاص بإعطائه طلباته ـ حسب الإمكان ـ وحل المشاكل بالتي هي أحسن.
وحيث أن الحكومات الديكتاتورية، لا تتحلى بالحزم، توقع نفسها والمجتمع في مشاكل جمة، وأخيراً يأتي دور المحاربة بينها وبين أعضاء الأعراف الخاصة، فالمظاهرات والإضرابات وأخيراً القلاقل والفوضى، والثورة.
3 ـ وأخيراً يأتي دور المحاكمة، فيتصور الطفل ـ المتقدم ـ في أنه هل أن تصور الآخرين عنه، صحيح أو باطل؟ وينقسم الحال إلى ثلاثة أقسام:
أ ـ أن يرى تصورهم صحيحاً.
ب ـ أن يرى أنهم قد بخسوا حقه وأنه فوق ما يتصورون عنه، وهذا هو الغالب، لأن الإنسان حيث يحب نفسه، لا يرى أخطاءه ونواقصه بينما يراها الناس، فهو عند نفسه رفيع، بينما يكون عند الناس وضيعاً أو لا أقل من أنه دون تصور نفسه، ولذا ورد في الحديث: (أحب إخواني من أهدى إليّ عيوبي)(
و (صديقك من صدقك لا من صدّقك)(9) و (يا صالح اتبع من يبكيك وهو لك ناصح ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش)(10) و (المؤمن مرآة لأخيه المؤمن)(11).
ج ـ أن يرى أنهم قد وضعوه فوق مستواه، وهذا نادر، وكثيراً ما يكون ذلك وليد الديكتاتورية، أو المال، أو التزوير، حيث يعلم الإنسان بحال نفسه إلا أن قوته أو ماله أو ريائه، يجعل الناس يتصورونه ـ ولا أقل من إظهارهم ذلك ـ فوق ما يرى هو لنفسه.
ولذا نرى أن العظماء ـ حقيقة ـ يأبون من مدح أنفسهم ومن مدح الناس لهم وقد مدح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعض في وجهه، فقال عليه السلام: (اللهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون)(12)… وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار، فترجلوا له واشتدوا بين يديه، فقال عليه السلام ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: (والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، واربح الدعة معها الأمان من النار)(13).
وقال عليه السلام: (كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً له سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراج نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من التقية، في حقوق لم أفرغ من أدائـــها، وفرائض لابـــد من إمــضائها، فـــلا تكلــمونــي بــما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظا مني بما يــتحفظ به عنــد أهــل الـــبادرة ولا تخالطوني بالمصانعة)(14).
الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية
ثم إن الشخصية تطلق:
1 ـ إما على الفرد، ويراد بها ما للفرد من الخصوصيات والصفات الظاهرة أو الباطنة.
2 ـ وإما على الاجتماع، ويراد بها ما يغلب على الاجتماع من الصفات الظاهرة والباطنة، في قبال الاجتماع الآخر، مثلاً، يقال: إن الاجتماع الفلاني له الشخصية الرفيعة، لكونه كريماً نظيفاً محباً للخير، بخلاف الاجتماع الفلاني الآخر فله شخصية منحطة، لعدم تحليه بالصفات الجميلة، وفي التاريخ أن سبارطة كانت لها الشخصية الحربية، بينما أثينا كانت لها الشخصية العلمية.
الشخصية: مادية ومعنوية
والشخصية فردية كانت أو اجتماعية:
أ ـ مادية.
ب ـ معنوية.
والثاني تنقسم إلى:
1 ـ اعتبارية.
2 ـ وانتزاعية.
3 ـ وحقيقية.
أ ـ الشخصية المادية:
هي المرتبطة بالأوليات المدركة بالحواس، مثل ما يحفظ الإنسان في خاطره، وما يظهره من الفعل ورد الفعل عند المسموعات والمنظورات والمشمومات، والمذوقات والملموسات [مع العلم أن قوة اللامسة تشمل:
1 ـ الخشن واللين.
2 ـ والرطوبة واليبوسة.
3 ـ والحرارة والبرودة.
4 ـ والأحجام.
5 ـ والعلو والهبوط.
6 ـ والمرغوب وغيره مثل الملامسة الزوجية].
فالشخص يكون قبال هذه الأمور في شبكة من الارتباطات، وكذلك الاجتماع، وكل ذلك يكون للفرد أو الاجتماع الشخصية المادية.
تغير الشخصية المادية
والشخصية المادية تتغير حسب تغير الإمكانات أو المعارف، فمثلاً: من يرى النظافة أو الكرم أو تعليم الأولاد، أو تزويج أولاده مبكراً إذا فقد الماء أو المال، تحو إلى شخصية غير نظيفة، ولا مضيافة، ولا يعلم أولاده، ولا يزوجهم مبكراً.
كل ذلك لعدم توفر الأسباب، وإن توفرت المعرفة لديه، وهذه الحالة تعطي للشخص شخصية خاصة، بينما إذا توفر الماء والمال تبدلت شخصيته إلى خلاف تلك الشخصية، وهكذا حال المجتمع الفاقد والواجد… ومثل ذلك الحال إذا تغيرت المعنويات، مثلاً كان له المال، لكن لم يكن له رأي في تزويج أولاده، أو حفظ نسائه، أو إكرام ضيوفه فإنه له حينئذ شخصية خاصة، ولم تكن تلك الشخصية مستندة إلى المادة، وإنما تستند إلى معرفة خاصة، فإذا تبدلت تلك المعرفة إلى معرفة مضادة تبدلت الشخصية.
ولذا نرى أن الجاهليين عرباً وفرساً وروماً، كانت لهم شخصيات خاصة، مثل السجدة للملوك، وإطاعة العلماء في الباطل، وحظر التعليم، وزواج المحارم، وفي الجزيرة قتل البنين والبنات خوف العار والإملاق، والمقاتلة وشاع في الكل المعاقرة وقطع الرحم، والانحراف الجنسي نساءً ورجلاً، وإلى غير ذلك.
فلما تغيرت معارفهم تحت لواء الإسلام، صارت لهم شخصية مخالفة لتلك الشخصية السابقة، وكذلك لما وفر عليهم الماء ووجب التطهر، صاروا نظافاً، بعد أن كانوا من أوسخ الناس، وبقي الغرب في الوساخة، حتى أن بعضهم لما بلّطوا الشوارع وفتحوا الحمامات ـ في فرنسا ـ قال علماؤهم: إنهم تشبهوا بالكفار ـ أي المسلمين ـ وأغلقوا الحمامات وارجعوا الشوارع كما كانت وكان مما اشتكى المسلمون ـ في حروب الصليبيين لهم ـ كثرة تعفن أبدان جيوش الصليب، فلما دخلت الحضارة المادية إلى تلك البلاد، تغيّرت شخصيتهم.
وكذلك نرى الحال في التفرقة اللونية والعنصرية، وما أشبه، فما دامت التفرقة لا تكون مزاوجة، ولا معاشرة، بل طائفة المنبوذين في الهند، إذا أراد رئيس المعمل أو الإقطاعي إعطاءهم أجرتهم وقف بحيث لا يقع ظل المنبوذ عليه وإلا لتنجس، وأعطى المال بواسطة، حتى لا تلمس يده يد المنبوذ، وفي أمريكا البيض لا يعاشرون السود، وكذلك القوميون لا يتزاوجون مع آخرين، بل ولا يرثونهم ـ كما رأينا ذلك في بعض البلاد العربية المعاصرة أبان المد القومي ـ.
وكان شيء كثير من ذلك أبان الجاهلية، فلما جاء الإسلام صار بلال الحبشي، وأبو ذر العربي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، في صف واحد في كل الشؤون، من غير فرق بين اللون، واللغة والقومية، والقطرية، في العبادة والمعاملة والزواج والعقوبات والعلم، وغير ذلك، بل قد صار ميزان المفاضلة [الإيمان والعمل الصالح] فقط. ولم يكن ذلك الميزان سبباً للفصل في زواج أو عقوبة أو معاملة بل مجرد الاحترام والأجر في الآخرة ونحوهما.
أقسام الشخصية المعنوية
ب ـ الشخصية المعنوية:
1 ـ هي التي تحيط الشخص بالاعتباريات، فيكون الفرد أو الجماعة في شبكة من أمور غير عينية، وأما هي تكون باعتبار المعتبر، فإذا اعتبرها المعتبر كانت، وإذا أزالها أزالت، مثل أن [النقد الورقي] يقابل كذا من السعر أو المادة، بالاعتبار، فإذا اعتبره المعتبر (بأية درجة كالدينار ونصفه وربعه والدرهم) صار له اعتبار، وإذا أزال اعتباره زال اعتباره.
والأمور الاعتبارية جارية في المعاملات والحقوق، والحدود، والأحوال الشخصية وغيرها، ولذا يتطور كل ذلك حسب تطور الاعتبار.
2 ـ والتي تحيط الشخص بالانتزاعيات، والفرق بينها وبين الاعتباريات أن الانتزاعيات ليست بيد المعتبر، وإنما هي حقائق لها واقع منتزع من أمر حقيقي، مثل زوجية الأربعة، والمناقضة بين الوجود والعدم، والمضادة بين الأسود والأبيض، والتضايف بأقسامه: (أ ـ المعاند، ب ـ وغير المعاند، ج ـ المتشابه، د ـ وغير المتشابه: كالفوق والتحت والعالم والمعلوم، والأخ والأخت والأب والابن).
فإن هذه الأمور [الاعتبارية] أيضاً تحيط حول الشخص فرداً واجتماعاً، وتعطيه شخصية، مثلا: القطر ذو خمسية مليون فرد له شخصية [زوجية] بينما القطر ذو تسعة ملايين له شخصية فردية، والقوم الذين يسكنون الجبال لهم شخصية فوقية [حسيّة] على القوم الذين يسكنون السفوح، إلى غير ذلك من الأمثلة.
ولا يخفى أن كلا من [الاعتبار] و[الانتزاع] له آثار، فليس مجرد [ألفاظ] فاعتبار جواز الازدواج بأربع، يجعل كل النساء ذات زوج، بينما اعتبار عدم الجواز إلا بواحدة، يجعل كثيراً من النساء عوانس وأرامل… والذين هم يسكنون الجبال أمنع عند المحاربة من الذين يسكنون السفوح وهكذا.
ومما تقدم ظهر، أن [الاعتبار] لابد له من [التواضع] وذلك يكون حسب المصالح ـ في نظر الواضعين ـ أما [الانتزاع] فإنه حقيقة خفيفة، ليس أمره بيد أحد، والفرق بين الانتزاع والحقائق الأصلية، أن الانتزاع يستند إلى الحقائق وليس العكس، حالهما ـ ولا مناقشة في المثال ـ حال الجوهر والعرض فالشكل مستند إلى الذات، وليس العكس، ولا ينافي ذلك أن الذات لا تخلوا عن شكل ما قطعاً.
3 ـ والتي تحيط الشخص بالحقائق، مثل واقع المبدء والمعاد، والرسالة والإمامة، وغيرها فإنها حقائق ـ ليست اعتبارية ولا انتزاعية ـ وإنما هي تحيط بالشخص والاجتماع، فيعطيهما [شخصية خاصة] من الاعتقاد، والامتثال وتلون [الأفكار والأقوال والأعمال والسيرة] بها.
وإنا لا نريد بذلك أن كل شخصية لفرد أو أمة ـ في إطار الحقائق ـ تطابق الواقع، بل نريد بيان: أن [الحقائق] أيضاً تعطي شبكة [الشخصية] سواء وصل الاجتماع إليها فرتب الآثار على الحقائق، أو لم يصل، بل اتخذ بدل [الواقع] [زيفاً] فرتب آثار الزيف مكان ما يلزم عليه من ترتيب آثار الحقائق.
وليست الشخصية في الواقع والزيف متشابهة، إلا من حيث الاسم، وإلا فالحقائق تعطي آثاراً، لا يعطيها الزيف، مثلها مثل الماديات، فكما أن السراب لا يروي، والحائط لا يمكن النفوذ فيه، وإن ظن المخدوع أنه ماء وباب، كذلك تختلف آثار الحقائق المعنوية عن آثار الزيف ـ الذي ظنه الظان حقيقة ـ.
بل هكذا الحال في الانتزاعيات، والاعتباريات، فزيفها لا يؤثر أثر الواقع منها، وإن ظان الظان أنه واقع، فمن ظن أن السيارة زوجية العجلات، بينما كانت فردية العجلات لم يحصل السير لأن الزوج يمكنها المشي لا الفرد، ومن ظن أن هذا الورق دينار، لم ينفعه، في إعطاء كمية من المواد في قباله ـ إذا كان زيفاً لا اعتبار له حقيقة ـ نعم قد يخدع الزيف، كما يخدع السراب الظمآن فيعطيه الاطمينان.
ومما تقدم ظهر، أن كلا من [الثقافة المادية] أي المرتبطة بالمادة، و[الثقافة المعنوية] أي المرتبطة بالحقائق غير المادية، من حقائق واقعية وحقائق انتزاعية وحقائق اعتبارية ـ والــفارق بــيــن الثقافتين، أن المادية تــدرك بالحواس الخمس، والمعنوية لا تدرك بها بل بالفكر ـ تؤطر الإنسان في إطار خاص من الشخصية، سواء كان ذلك الإنسان فرداً أو جماعة.
أما إنه هل الأثر الأكثر للمادية أو للمعنوية فقد اختلف فيه علماء الاجتماع بين مرجح للأول، ومرجح للثاني، وقائل بالتساوي، وقائل بالتفصيل، فبعض الأفراد أو الاجتماعات يتأثرون بالمادية، وبعضهم بالمعنوية أكثر وهكذا.
1 ـ بحار الأنوار ج/ 2 ص32.
2 ـ سورة الشمسي آية 7.
3 ـ الوسائل ج/ 11 ص336.
4 ـ للتفصيل أنظر بحار الأنوار ج/1 ص158.
5 ـ بحار الأنوار ج/43 ص295.
6 ـ سورة القلم آية 9.
7 ـ سورة الحجرات آية 13.
8 ـ الوسائل ج/8 ص413.
9 ـ أنظر غرر الحكم ص215 ح3967.
10 ـ وسائل الشيعة ج/8 ص413.
11 ـ نوادر الراوندي/ 8.
12 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص485.
13 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص475.
14 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص335.
عوامل تكوين الشخصية
معرفة شخصية الإنسان ـ الشخصية بالاصطلاح الاجتماعي ـ توجب تهيئة الظروف التي تسبب استقامة الشخصية، أو لا أقل من التقليل عن الشخصيات المنحرفة، وعن انحرافات الشخصية المنحرفة، ثم إن الشخصية تتكون من:
1 ـ الفطرة، حيث أنها الأرضية المفطورة بحيث لا يمكن تغييرها كلياً، وإنما الممكن أن يزرع فيها الزرع المختلف.
2 ـ الوراثة.
3 ـ المحيط الطبيعي.
4 ـ المحيط الاجتماعي.
5 ـ الثقافة.
الفطرة… والشخصية
1 ـ أما الفطرة، فقد قال سبحانه: (فطرة الله التي فطر الناس عليها)(1) فإن الإنسان يخلق وله فطرة خاصة، قابلة للتغيير في حدود مخصومة، بينما أخويه الآخرين [الحيوان والنبات] ليس لهما إلا تغير قليل جداً، فالحيوان ليس له ذلك المجال الواسع للتقلب، وإنما له غرائز يسير الحيوان من أول عمره إلى آخره على تلك الغرائز، ولا اختلاف بين أفراده طيلة ملايين السنوات وإن احتمل بعض العلماء إمكان التطوير في الحيوان أيضاً.
والنبات أقل تطوراً، وإن كان فيه بعض التطور أيضاً، حيث أن شجرة التفاح مثلاً تختلف عن أمها، في بعض الكيفية والخصوصيات، وفي بعض خصوصيات الثمر، بل قابلة للتحسين، أو الترك حتى تكون أسوء.
والإنسان وحده دائرة تطوره كبيرة جداً، يبتدء بالمشي على قدمه، وينتهي إلى ارتياد الفضاء، وهذا لابد وأن يكون له أرضية قابلة لمثل هذا التجول عليها بهذه الدائرة الوسعية، وحدود هذه الأرضية، وإن لم يكن معلومة لنا، إلا أنها وسيعة في الدنيا والآخرة جداً.
قال سبحانه: (لتركبن طبقاً عن طبق)(2).
وقد قال بعض الحكماء: (ثم اصعد عن الملائكة واصل إلى ما لا يناله الوهم).
وفي الحديث عن الآخرة انه: (ينال الإنسان فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)(3).
والإنسان يخلق فطرة مختلفاً (فالناس معادن كمعادن الذهب والفضة)(4).
الوراثة… والشخصية
2 ـ وبعد ذلك يأتي دور الوراثة، ففي الحديث: (الولد سر أبيه) وقد ثبت في علم الوراثة ذلك، وأن الابن يحمل معه بعض ملامح الأب، وبعض ملامح الأم، وهذا جار في ملامحه الجسدية، وملامحه النفسية، فكأن نفسياته الفطرية تؤطر بنفسياته الوراثية.
وهاتان [الفطرة والوراثة] لا توجبان الإلجاء، بل الاقتضاء، حالهما حال الأدوية حيث أنها اقتضائيات لا أنها توجب الآثار قطعاً… والفطرة والوراثة تبقيان مع الإنسان من أول عمره إلى يوم مماته.
دور المحيط الطبيعي في تكوين الشخصية
3 ـ وبعدهما يأتي دور المحيط الطبيعي، فإن للمناخ المحتوي على كيفية خاصة من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة تأثيراً على الإنسان لا يمكن إنكاره، ولذا كان أهالي البلاد المعتدلة أكثر اعتدالاً من أهالي البلاد الحارة، حيث تغلب عليهم اليبوسة، ومن أهالي البلاد الباردة، حيث تغلب عليهم الرطوبة، وكل من الرطوبة واليبوسة لها آثارها في النفس، كما لها آثارها في الجسد.
بل للبلاد الجبلية، والسفحية، وسواحل البحر، وبلاد الأشجار والأنهار تأثيرات كبيرة في الصفات والمزايا، ولذا اعتادوا من القديم وصف أهالي البلدان بالصفات المختلفة مما يرى علماء النفس والاجتماع والوراثة ما لتلك البلاد من التأثير في تكوين شخصية أهاليها.
وكان تقسيم أر سطو الأمزجة إلى الدموية والبلغمية والصفراوية والسوداوية، مستقى من ذلك، هذا في الجملة، لا إن كل التأثير للبلد والمناخ، وإذا كان لأنواع الأطعمة التأثير في الأخلاق ـ لا أقل العابرة منها ـ كان للمناخ التأثير أيضاً إن قل أو كثر.
تأثير المحيط الاجتماعي
4 ـ أما المحيط الاجتماعي وما يتلقاه الإنسان من مجتمعه فلا يخفى تأثيره في تكوين شخصيته فإن الإنسان يولد في كمال العجز، ويبقى عاجزاً إلى حين مماته، ويكمل عجزه من محيطه الاجتماعي ـ كما يكمل بعض عجزه من محيطه الطبيعي ـ وكما يأخذ حاجاته عن الاجتماع، كذلك يأخذ صفاته وأخلاقه عن الاجتماع، ويؤطّر نفسه بإطار الاجتماع، فيلاحظ كيف أنه يتمكن أن يعيش في وسط ذلك الاجتماع ويأخذ منه حاجاته الجسدية والنفسية فيلاحظ الفعل ورد الفعل ويؤطر نفسه بتلك الشبكة المنسوجة حوله.
والفطرة، والوراثة، والمحيط الطبيعي، تنسحب أمام المحيط الاجتماعي بقدر ممكن من الانسحاب، ولذا نجد حتى المرضى ونحوهم إذا وقعوا في الضغط الاجتماعي، ساروا كما يريده الاجتماع حسب الممكن.
الثقافة… صانعة الإنسان
5 ـ وأخيراً يأتي دور الثقافة فالإنسان يتمكن أن يخزن ثقافته التي استفادها بأي طريق كان، في الكتب ونحوها، وكل جيل متأخر يتعلم من الجيل المتقدم لا تجاربه فحسب، بل ما اختزنه في الكتب، حتى يأتي دور جيل ـ كجيلنا المعاصر ـ تجمعت لديه مليارات العلوم والتجارب المتراكمة منذ الأجيال السابقة.
وهذه الثقافة التي تلون الاجتماع تحتوش الإنسان من كل مكان، وتــؤثر فــيه وتؤطره بإطارها، وحتى الذين يفرون من الاجتماع إلى الكهوف والصوامع قد لونوا بلون اجتماع ما ويحملون معهم ذلك اللون إلى هناك، كما يحملون معهم لغة اجتماعهم وذكرياته، نعم إذا ربي الطفل بين الحيوانات لا يتلون بلون الاجتماع.
وهذا الاجتماع الذي يحتوش الإنسان يعطي للإنسان هيئة اجتماعية، فيعيش الإنسان في شبكته، ويتغير حسب تغيره، ويبتدء احتواء الاجتماع للإنسان من أول أيام حياته، ولذا نجد الطفل من أوائل أيامه يأخذ في ملاحة الاجتماع والتعلم منه، والأنس به وطلب الحوائج إليه.
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد). وقد ثبت في العلم أن مخ الطفل كالشريط يأخذ ما يلاقيه، ثم يختزن ذلك في لاوعيه، ويرشح بعدئذ ذلك المخزون من أفكاره وأعماله، والميت يفهم وهو في لحده ولذا يلقن في القبر ـ كما ورد في الشرع ـ.
ثم الإنسان لا يتعلم حاجاته الأولية وأصول معاشرته من الاجتماع فقط، بل يتعلم الحاجات الثانوية، مما يحتاج إليه في معاشرته الاجتماعية أيضاً، كالآداب والرسوم والتقاليد والعادات الاجتماعية وهي حاجات اجتماعية لا أولية فإن الحاجات الأولية هي المأكل والمشرب والمسكن ونحوها.
ويبدء الاحتواء الاجتماعي من العائلة ثم المدرسة، وإلى الاجتماع الكبير بل وإلى الاجتماع الأكبر، بسبب الإذاعات والأسفار ونحوها، ولذا قالوا: (من لم يؤدبه الأبوان أدبه الزمان) حيث أن الإنسان إذا لم يتطور حسب التطور الاجتماعي ولم ينفعه نصح العائلة، اصطدم بموازين الاجتماع، مما يصفع بسببه.
والثقافة بضميمة الأمور الأربعة السابقة تعطي الإنسان فرداً أو جماعة ـ الشخصية ـ فيقال شخصية فلان، أو شخصية البلد الفلاني، وهكذا.
أجواء نمو الشخصية
كيف يمكن إنماء الشخصية الاجتماعية حتى يصل الاجتماع إلى شخصيته المطلوبة، أي القابلة؟ إن ذلك إنما يكون في ظل إنماء الشخصية الفردية، إذ الشخصية الاجتماعية عبارة أخرى عن تجمع الشخصيات الفردية، إنه لاشك في أن الاجتماع له شخصية غير شــخصيـــة كل فرد فرد، كــما أن البحر له قوة غير قوة كل قطرة قطرة، لكن بصورة عامة يتوقف الكيان الاجتماعي على الكيان الفردي، سواء في الشخصية أو في البحر والقطرة، أو في الجيش والجندي، أو في البناء والأجرة، أو في الواحد والألف ـ من الأعداد ـ.
وعليه فاللازم ملاحظة أنه كيف تنمو شخصية الفرد ـ ثم إذا كان للاجتماع بما هو اجتماع شرائط وآداب لنموه، يلزم ملاحظة ذلك في مرتبة ثانية ـ ولدى الاستقراء والسبر يرى أن الشخصية الفردية إنما تنمو في ظل كون [الحكم] و [العلم] و [المال] للجميع بأن يكون الناس يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وكل يتمكن من العلم تمكنه من الماء والهواء، وكل له نتيجة سعيه الفكري والجسدي، بالإضافة إلى [قيمة المواد، وما له من الشرائط والعلاقات الاجتماعية].
وفي مثل هذا الجو [لكل قدر استحقاقه من الحكم والعلم والمال] تنمو الشخصيات نمواً ممكناً، وقد كان قبل الإسلام كل من الثلاثة محتكرة على طائفة الحكام، وحتى أن العلم كان محظوراً إلا للموبذ ـ في إيران ـ وللكنيسة ـ في الرومان ـ وجاء الإسلام ليعطي لكل حقه، ولكن إلى الآن لم تقدر الدنيا على ذلك، حيث أن العلم محروم منه الطبقات الفقيرة ـ كما تقدم في مسألة سابقة ـ.
والحكم في الغرب تحت سيطرة المال، وفي الشرق تحت سيطرة الديكتاتور… والمال يستغل في الغرب لمصلحة الرأسماليين، وفي الشرق لمصلحة الحكام… وليس المراد بكون الحكم للجميع إلا [الاستشارية] الصحيحة ـ مع لزوم أن يكون بالشرائط الإسلامية، كما هو عقيدة المسلم ـ.
ولا يمكن إخراج الحكم والمال والعلم عن السيطرة الفردية، والاحتكار إلى التوزيع العادل بين الجميع، إلا بتوزيع القدرة، فقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (من ملك استأثر)(1) وتوزيع القدرة لا يمكن إلا بالوعي الجماهيري بأن يعرف الكل كم حق كل أحد من العلم والمال والحكم.
فإذا وعى الجميع لا يتمكن المستثمرون من استثمار علم أو مال أو حكم غيرهم، كما هو الحال في عالم اليوم وإن اختلفت البلاد في شدة الاستثمار وضعفه، نتيجة لكثرة الوعي ـ في الجملة ـ في بعض البلاد وقلته في بعض البلاد الأخر.
فإذا وعى الجميع، تبع ذلك تشكل المنظمات الحافظة للمكاسب، والمنمية لها، أما المنظمة الواحدة فهي عبارة أخرى عن الديكتاتورية، كما نشاهد ذلك في البلاد التي يحكم فيها حزب واحد، فإن الإنسان أقرب شيء إلى الديكتاتورية والفردية.
طبيعة الحكم الديكتاتوري
ومن طبيعة الديكتاتورية:
1 ـ السرية في العمل، حيث أن الديكتاتور دائماً متآمر يريد بذلك أن يحفظ قدسه أمام الناس، فيعمل في السر ما يظهر في العلن خلافه.
2 ـ إظهار أنه العامل الوحيد في الساحة وإن كل الفضل يرجع إليه.
3 ـ تنفيذ آرائه فقط، أما غيره فرأيه غير صحيح، فهو فرد الله المختار الذي يفهم ما لا يفهمه غيره.
4 ـ استئثاره بكل الغنائم، أي أن كل السمعة، وكل الدعاية، وكل الخير له فقط، أما من عداه فله بقدر ما تفضل عليه الديكتاتور تفضلاً محضاً وإحساناً صرفاً، فقد يجعل خيرة الأموال لنفسه وجماعته ملكاً صرفاً، وقد لا يجرء على ذلك، بل يحوط الأموال لصرفها في هواه ـ وإن سمى ذلك بألف اسم آخر ـ ولا فرق في الدكتاتورية بين الصريحة، أو الملتوية تحت صورة [مجلس الأمة أو مجلس القيادة، أو مجلس الشعب] أو غير ذلك، وقد شاهد العالم أمثلة واضحة لذلك في ستالين وهتلر وموسيليني وماو، وأضرابهم من الديكتاتوريين الأصغر منهم حجماً، وإن كانوا مثلهم في كل الخصوصيات.
ومما تقدم ظهر أنه لو نظم المجتمع تنظيماً صحيحاً، بحيث يكون العلم والمال والحكم في متناول الجميع بما يستحقون، نمت الشخصية الاجتماعية نمواً صحيحاً، بالعكس من المجتمع المبني على الفوضى، حيث كل أحد يحاول أن يحفظ نفسه بالقدر المستطاع فلا مجال له للنمو، ومن المجتمع المبني على الديكتاتورية، حيث أن البناء الديكتاتوري يمنع عن النمو.
اختلاف النفسيات
وكما أن البذور مختلفة ـ فإذا وجدت المناخ المناسب نمت كل بذرة بما فطر لها، من الأشكال والألوان والطعوم وغير ذلك، كذلك أفراد الاجتماع بصفاتهم المختلفة، وقد قسم بعض علماء الاجتماع أفراد الاجتماع إلى أربعة أقسام هي:
1 ـ الهادئ، حيث يرجح التعقل والتفكر والتأني والتروي.
2 ـ المتحمس حيث يرجح الإقدام والاقتحام والاستهانة بالمخاطر.
3 ـ المنسجم الذي يميل إلى الانسجام والمداراة.
4 ـ المتنفر الذي يميل إلى الانفصام والابتعاد.
ولا يخفى أن الصفات المذكورة تكمل بعضها البعض الآخر، ولذا يشاهد أن الجمعية المركبة من القسمين الأولين، يمنع هادؤها متحمسها من الإفراط كما يمنع متحمسها هادءها عن الركود، وتكون النتيجة الإقدام العقلائي، وكذلك في جمعية تجمع بين المنسجم والمتنفر، وهكذا بالنسبة إلى بقية أقسام ضرب الأربعة بعضها في بعض.
ومع أنا نرى في عائلة واحدة قسمين أو أقساماً من الأولاد، إلا أن التربية لها أثر فعال في تلوين المجتمع، بأحد الألوان المذكورة، أو المزيج المتوسط منها، فبعض الأمم يربون على التعقل والتأني، بينما بعض آخر يربون على الإقدام والاندفاع، وهكذا… ولذا اشتهر أن شعب العراق له صفة كذا، وشعب إيران له صفة كذا، والآسيويين ليسوا في صفاتهم كالإفريقيين وتختلف سمات الأمريكيين عن الأوروبيين، وهكذا.
ثم إنه ليست حدود خاصة بين الأقسام المذكورة، حتى تكون التمايز كلياً، ولذا يشاهد في أمة لها شخصية خاصة، أفراد لهم شخصية متوسطة أو مخالفة وإنما هم عالم الاجتماع، ملاحظة الأعم الأغلب.
الاهتمام بالتربية والتثقيف
وحيث أن كثيراً من الشخصية الفردية والاجتماعية، يتوقف على أسلوب التربية والتثقيف، فاللازم على الذين يريدون إصلاح المجتمعات الاهتمام بهذا الجانب، فإن ظهور الشخصية ـ حسب التأديب ـ وإن كان بطيئاً، إلا أنه نواة لابد وأن يظهر ثمرها، ولو بعد حين، ولا فرق في ذلك بين تأديب الإنسان نفسه، أو أولاده، أو أقرباءه، أو من يتمكن عليه من أفراد مجتمعه.
قال علي عليه السلام: (سوء الأدب سبب كل شر)(2).
وقال عليه السلام: (أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه)(3).
وقال عليه السلام: (لا ميراث كالأدب)(4).
وقال عليه السلام: أيها الناس تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها)(5).
وقال عليه السلام: (غاية الأدب أن يستحي الإنسان عن نفسه)(6).
وقال عليه السلام: (لا تقروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)(7).
أقول: فإن ذلك من بعد المدى، حيث يجب أن يؤدب الإنسان ولده اجتماعياً، بحيث يقدر على أن يساير الاجتماع، في نطاق الأحكام الإسلامية.
وقال عليه السلام: (المرآة التي ينظر الإنسان فيها إلى أخلاقه هي الناس، لأنه يرى محاسنه من أوليائه منهم، ومساوءه من أعدائه فيهم).(
… إلى غيرها.
ولا يخفى، أن المجتمع كلما كان أكبر، كان أقرب إلى القوام والاعتدال لأن العناصر المختلفة التي تصب فيه بثقافاتها المختلفة توجب تلون الاجتماع باللون الأنصع، فإن من طبيعة الإنسان أن ينظر إلى الأعلى فيتخذه أسوة، وأن يسعى بمثل سعي الأكثر سعياً لئلا يفوته الركب.
ولذا كان من صفات المجتمعات الكبيرة:
1 ـ وجود المحاسن فيها.
2 ـ اقترابها بمجموعها إلى الاعتدال.
3 ـ سرعتها في السير والتقدم إلى الأمام.
فإنه وإن كانت المشاكل في مثل هذه التجمعات أكثر، إلا أن محاسنها أكثر من مساوئها، ولذا أمر علي عليه السلام: بسكنى المدن الكبار، وكان المجتمع الكبير من أحسن أسباب إعطاء [الشخصية] المعتدلة للإنسان، فرداً أو جماعة أو مجتمعاً.
عوامل صياغة الشخصية الفردية
ثم إن الشخصية الفردية ـ والتي تؤثر بالآخرة في شخصية الاجتماع ـ إنما تصاغ بسبب العوامل التالية:
1 ـ الصفات النفسية:
1 ـ الصفات النفسية الفطرية المودعة في نفس الفرد منذ الولادة، ولذا نشاهد طفلين شرائطهما متحدة من جميع الحيثياتـ، ومع ذلك أحدهما أجرء من الآخر، أو أكرم، أو أذكى، أو ما أشبه ذلك.
وقد ثبت علمياً، أن صفات الأبوين، بل الأقرباء كالعم والخال، وحالتهما عند انعقاد النطفة، وخصوصيات غذاء الأم حال الحمل، بل وبعض جهاتها الأخر، لها مدخلية في نفسية الطفل، وفي الفقه: [باب النكاح] فصل الأولاد، روايات بهذا الشأن.
2 ـ الخصوصيات الجسدية:
2 ـ خصوصياته الجسمية، من طول وقصر، وجمال وقبح، وكمال ونقص، وصحة ومرض، وما أشبه فإنها سهيم في تكون الشخصية، مثلاً القصر غير المتعارف أو الطول غير المتعارف، يسببان تحقير الناس له [وإن كان التحقير غير صحيح] والتحقير يسبب عقدة نفسية في الإنسان، مما يسبب له شخصية معقدة يظهر أثرها في أعماله.
بالعكس المجيل يحظى باحترام الناس، مــما يسبب له عـــدم الانطوائية، وحفظ احترام نفسه، لئلا يخيب ظن الناس فيه، وقد ورد: (إن الله جميل يحب الجمال) (9)، وورد: اتخاذ الظئر الجميل للرضاع لأن اللبن يعدي وورد: (خير نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً)(10).وحال القبيح، والناقص، والمريض، حال القصير والطويل… بالإضافة إلى أن المريض أو الناقص لا يقدران على ما يقدر عليه الصحيح والكامل، وكل ذلك يعطي للإنسان شخصية مناسبة لتلك الظواهر.
3 ـ المحيط الطبيعي:
3 ـ كون الفرد ريفياً أو مدنياً، يعيش في ساحل البحر، أو الغابة، أو الجبل أو غيرها، وذلك لأن المناخ يعطي للإنسان شخصية خاصة ـ كما تقدم في بعض المسائل السابقة الإلماع إلى مثل ذلك، مثلاً: الريفي أصرح من المدني، والذي يعيش في الغابة أشجع من غيره… ومن هذا المنطق كانت عادة قريش ـ قبل الإسلام ـ إيداع أولادهم الرضع إلى المراضع البدوية لينشأوا شجعاناً فصحاء صرحاء أصحاء الجسم، وكما قال علي عليه السلام: (فإن الشجرة البرية أصلب عوداً، وأكثر وقوداً وأبطؤ خموداً)(11).
4 ـ الوضع المعيشي:
4 ـ إنه عاش في طبقة فقيرة أو غنية أو متوسطة:
أ ـ فالفقيرة، ترضع الأمهات أولادها طويلاً، ويتعلم الولد على حياة الخشونة، وحيث أن للفقير روابط قليلة، يخرج الولد بشخصية جسورة صريحة بسيطة… بينما العكس من كل ذلك أولاد الطبقة الغنية… أما المتوسطة فالأولاد يكونون بين الأمرين.
ب ـ حيث أن الطبقة الفقيرة تعمل دائماً لأجل المعاش، لا يتسرب إلى أولادها مسائل المعاشقة والأمور غير المشروعة، مما يكون سببها [الفراغ والجدة] بالعكس من أولاد الأغنياء المنحرفين، حيث يتوفر لهم [ذان الأمران] بتوابعهما.
ج ـ سهولة الحياة عند الطبقة الفقيرة، بخلاف الطبقة الغنية، حيث أن قلة المادة والاشتغال بالمعاش يمنع الفقير، من أن يركم على نفسه أغلال الحياة، من رسوم الزواج والولادة والموت، وغير ذلك مما تلازم حياة الغنى والدعة في الغالب، وكذلك الحال في المسكن والملبس والمركب والسفر والمرض، وغير ذلك.
د ـ يغلب في الطبقة الفقيرة الإقدام والإفراط، فيما الغالب في الطبقة الغنية العكس، وذلك لأن الروابط التي تحيط الفقير أقل، ولا مال ولا جاه له حتى يلاحظهما في سلوكه، بينما كل ذلك بالعكس في الطبقة الغنية.
وعليه فالطبقة الغنية لهم شخصية خاصة، ليست كشخصية الطبقة الفقيرة، والطبقة المتوسطة تعيش بين الطبقتين في الشخصية.
5 ـ العمل الاجتماعي:
5 ـ بعد ذلك يأتي دور الشغل، فإن الأشغال المختلفة تعطي للإنسان شخصيات متفاوتة، فالمرجع الديني، والخطيب، والقاضي، والمعلم، لهم شخصية خاصة، لا تماثل شخصية الجندي، والتاجر، والموظف، وما إلى ذلك والسبب أن العمل في نفسه، والمرتبطين بأي عامل عامل، يتطلبان نوعية خاصة، فاللازم أن يصب العامل ـ من أي لون عمل ـ نفسه في قالب ذلك الكيفية من الطلب، وإلا لم يتمكن من إنجاح عمله.
ومنه يعلم، اختــلاف الشخصيات، ولو كـــانوا في إطار عام واحد، كالمرجع والخطيب، بل ومدرس الابتدائية والثانوية والجامعة.
6 ـ التعليم:
6 ـ وأخيراً يأتي دور التعليم بشعبه:
أ ـ البيتي.
ب ـ والمدرسي.
ج ـ والاجتماعي الصغير.
د ـ والاجتماعي الكبير، حيث أن العائلة مدرسة للأطفال، يتعلمون فيها كثيراً من الآداب والرسوم، ثم المدرسة تعطي التوجيهات، وإذا كان الإنسان منضماً إلى جماعة: كقومية، أو دين، أو منظمة، أو حزب، أو ما أشبه، تعلم منهم أموراً، ليست كسائر التعاليم السابقة، وأخيراً يأتي دور ما يتعلمه الإنسان من الاجتماع العام.
وهذه الأمور كلها تعطي الشخص كيفية خاصة من [الشخصية].
ولا يخفى، أن بعض الأمور المذكورة التي لها مدخلية في إضفاء الشخصية على الفرد، أكثر نفوذاً في الشخص من البعض الآخر، مما تكون [شخصية] الشخص مستندة إليه بنسبة أعلى من استنادها إلى أمر آخر، مثلاً: النفوذ البيتي والمدرسي، أثرهما أكثر من النفوذ الاجتماعي والحزبي.
والسر أن الطفل صفحة بيضاء، فكلما نقش فيها تلونت تلك الصفحة بذلك اللون، فإذا جاء لون آخر يريد إزالة ذلك اللون السابق، لم ينفذ كنفوذ اللون السابق، فيبقى اللون الجديد باهتاً، بينما اللون القديم يبقى قاتماً، هذا بالإضافة إلى أن تقبل الطفل أكثر وأسرع من تقبل غيره، وإن لم يكن اللون الجديد مضاداً للون القديم، ولذا يبقى لون العائلة والمدرسة في نفس الإنسان وفي أسلوب حياته إلى زمان موته، بينما ليس كذلك لون حزبه واجتماعه الكبير.
اختلاف الاستجابة للمؤثرات
ثم لا يخفى أن استجابة الناس ـ أطفالاً، أو كباراً ـ للألوان التي يراد إضفائها على النفس والسلوك، مما بالآخرة تعطي [الشخصية] مختلفة، وذلك لأن الأنفس فطرت متفاوتة، كما أن الشخصيات تتفاوت في قدر تقبل اللون الجديد والمدة التي يحتاج إليها الشخص حتى يتهيأ للتقبل.
مثله، مثل الماء الواحد، الذي يلمسه ثلاثة أفراد، فيحس كل واحد منهم بحس مخالف للحس الآخر، فإذا كان [ماء فاتر] و [كان ثلاثة أشخاص] أحدهم خرج من الماء البارد، والآخر من الماء الحار، والثالث من الماء الفاتر، فإذا دخل الثلاثة في هذا [الماء الفاتر] وجده الأول حاراً، والثاني بارداً، والثالث فاتراً، وليس ذلك لاختلاف الماء، وإنما لاختلاف الاستجابة.
وقد فحص جماعة من علماء الاجـــتماع كـــيفيـــة تكون [الشخـــصية] فوجدوا أن في مأة عائلة يتقولب الأطفال بأخلاق أبويهم [55] وبأخلاق أصدقائهم [33] وبأخلاق المرشدين [9] وبأخلاق المعلمين [3] وهذه النسب وإن كانت مشكوكة، إلا أن المسلم أكثرية تأثير العائلة، ثم الأصدقاء، وقد ورد (المرء على دين خليله).
كما أن مثل هذا الإحصاء لا يصدق إلا ما في الظروف العادية، فإذا كانت العائلة في فوضى واضطراب، وكان الأصدقاء في تضامن وبناء، صار العكس بأن تقولبت شخصية الأولاد بقوالب الأصدقاء لا بقوالب العائلة.
التخطيط لإنماء الشخصية
والاجتماع بشلاله الهادر قادر على الاستفادة من [مادة الشخصية] أكبر قدر من الاستفادة، كما أنه بالعكس قادر على إلزام [الشخصية القابلة] زاوية العزلة والانزواء، ولذا كان على المخططين الاجتماعيين تنظيم الاجتماع، بحيث تكون الشخصيات الرفيعة، وبحيث يستفيد من [المواد] ومن الشخصيات إلى آخر قطرة من الاستفادة الممكنة… ولا يمكن ذلك إلا بحرية [العلم والمال والحكم] كما ذكرناه في أول المسألة، والله المستعان.
ومما تقدم ظهر أن الاجتماع يربي الأفراد تربية عامة، حسب اتجاه الاجتماع، محارباً أو مسالماً، عاملاً أو عاطلاً، كريماً أو بخيلاً، جباناً أو شجاعاً.
التوجيه السليم لصفات الأمة
وحيث أن بعض الصفات يمكن استخدامها في الصحيح، أو في الباطل فالمصلح القدير هو الذي يتمكن من توجيه الصفة التي تستخدم في الباطل في الأمر الصحيح، مثلاً: إذا كانت الأمة مسرفة في الصرف على الولادة، والزواج والأموات، أمكن صرف صفتها الإنفاقية ـ والتي تصرف بإسراف في الأمور المذكورة ـ في المشاريع الخيرية، كالمدارس، والمساجد والمستوصفات وما أشبه.
والنبي صلى الله عليه وآله استفاد من هذه القاعدة الإلهية، فقد كانت القبائل العربية تصرف طاقة شجاعية هائلة في محاربة بعضها لبعض، فصرفها الرسول صلى الله عليه وآله في محاربة الخارج، لأجل إعلاء كلمة الله وإنقاذ المستضعفين، كما صرف صلى الله عليه وآله إسرافهم في إنفاقات كانوا يسمونها كرماً في إعطاء الحقوق الشرعية، والصرف في سبيل الجهاد، وصرف قريحتهم البليغة وفصاحتهم الشعرية والنثرية في الإرشاد والبلاغة.
فبينما كانت تصرف القريحة الشعرية في:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
صرفها الرسول صلى الله عليه وآله في:
يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم وأسمع بالرسول منادياً
إلى غير ذلك، وبينما كان العربي يقتل العربي في سبيل ناقة، في حرب البسوس، أخذ المسلم يجالد الفرس والروم في سبيل [الحقيقة] عوض الخرافة، وفي سبيل نشر العلم بعد أن كان محتكراً عند الأشراف، وهكذا.
وإذا كانت بعض الأمم تفقد الصفة الخيرة، فاللازم على المصلح، إرشادهم إلى فطرتهم المطوية على تلك الصفة… كما أن اللازم على المصلح صرف الصفة المنحرفة، من أوليات رغبات الإنسان في الجهة المستقيمة، مثل أمة تصرف شهواتها في الشذوذ والانحراف الجنسي، حيث أن اللازم توجيههم نحو صرفها (في ما خلق لكم ربكم)(12) ـ كما قاله لوط عليه السلام لقومه.
فإن الفرد كالمجتمع أرض قابلة لمختلف الزرع، فاللازم زرع الطيب فيها إن كانت قفراء، وإن كان